2011/09/28

المعلمون في عيون وأفئدة تلاميذهم

المعرفة - إبراهيم مضواح الألمعي- عسير istockphoto_14772436-people-standing-on-different-levels-of-the-chart

يومًا بعد يوم يزداد شغفي بقراءة السير الذاتية، وتزداد المتعة التي أجدها عندما أرى إنسانًا تمتد قامته عقودًا من الزمن يلتفت إلى الوراء متأملاً آثار وقع قدميه بعد السير الطويل، وللمتعة التي نجدها في هذا الفن الأدبي أعني (السيرة الذاتية) .

يرى الروائي العالمي (غابرييل ماركيز)(1) أن الحياة الحقيقية ما تختزنه الذاكرة ثم نرويه، لا ما نعيشه فقط، فيفتتح كتابه(عشت لأروي) بقوله:

«الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكر، وكيف يتذكره ليرويه»(2).

على أنه يتسرب إلى هذا النوع من التأليف حظوظ النفس، وتبرير المواقف، وتجميل الأحداث، مما لا ينطلي على فطنة القارئ الفاحص.

ولكن قارئ السير الذاتية يلحظ بشكل لافت :

  • بروز مرحلة التَّعلم بأحداثها، ومواقفها، وتأثيرها في اتجاه الكاتب، وتأسيسها للمراحل الحياتية التالية لها
  • بداية تكوين العلاقات الإنسانية مع المحيط الذي يتجاوز حدود الأسرة
  • كما نجد رصدًا دقيقًا لمواقف المعلمين وتصرفاتهم، وكلامهم وحركاتهم وسكناتهم، وعلاقاتهم بتلاميذهم، ونلحظ ذلك بشكل أكبر في حياة الأدباء خاصة والمثقفين بشكل أعم، ما يجعلهم يفردون صفحات غير قليلة في سيرهم الذاتية لمراحل التعليم.

وهنا أتساءل :

فيما لو عَلِمَ أولئك المعلمون أن من بين تلاميذهم من سيُخلد أسماءهم

ويرصد حركاتهم، بل وسكناتهم، ويقيم مواقفهم

هل كانت كلماتهم ومواقفهم ستكون كما هي أم أنها ستكون شيئًا مختلفًا؟!

وأكاد أقول:

(لا لن تكون كما هي)

وأقدم هنا ما يؤيد غلبة ظني هذا، عبر هذه الصفحات التي تركز على جانب العلاقة بين التلاميذ ومعلميهم من خلال ما يختزنه التلاميذ في ذاكرتهم من مواقف وذكريات أثَّرَتْ بشكل أو بآخر في حيواتهم، ثم استرجعوها في موهن من العمر فدونوها، ثم ذهب الأستاذ والتلميذ وبقيت شهاداتهم للتاريخ..مات الـمُداوي والـمُدَاوَى والذي جَلَبَ الدواء وباعه، ومن اشترى!!

وقد جرت سنة العلماء من قديم أن يسجلوا شهاداتهم لشيوخهم ومعلميهم

ومن قرأ الذهبي(3) في (سير أعلام النبلاء)

والشوكاني(4) في (البدر الطالع)

وجد ذلك بيّنًا،

وكذلك نجد الإمام ابن الجوزي(5) في كتابه (صيد الخاطر)، يوجز الكلام عن شيوخه فيقول:

«لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه.ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون الجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ.

ولقيت عبدالوهاب الأنماطي(6) فكان على قانون السلف لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكنت وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد. وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل

ولقيت أبا منصور الجواليقي(7)، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا محققًا، وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما(8)».

 

الغزالي يعرب وأستاذه يبكي ؟!

وعلى الرغم من تغير الزمان والمكان، يبقى أثر دموع الأستاذ في نفس التلميذ كما هو، ومصداق ذلك في المقارنة بين كلام ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب الأنماطي، وكلام الشيخ محمد الغزالي(9) عن أحد أساتذته إذ يقول:

«سألني مدرس النحو وأنا طالب في المرحلة الابتدائية: أعرب يا ولد «رأيت الله أكبر كل شيء»

فقلت على عجل:

رأيت فعل وفاعل، والله منصوب على التعظيم! وحدثت ضجة من الطلبة، ونظرت مذعورًا إلى الأستاذ، فرأيت عينيه تذرفان!! كان الرجل من أصحاب القلوب الخاشعة، وقد هزه أني التزمت الاحترام مع لفظ الجلالة ـ كما علموني ـ فلم أقل إنه مفعول أول، ودمعت عيناه تأدبًا مع الله!! كان ذلك من ستين سنة أو يزيد.. رحمه الله وأجزل مثوبته!(10)».

وقد تناول المعاصرون أساتذتهم وسجلوا مواقفهم وأقوالهم، فحمدوا المخلصين الصادقين من المعلمين، الذين يتصلون بتلاميذهم، ولا يَحْرِفونَ إلى غيرهم أنظارَهم، في حنو الأب،ودأب المؤمن بجلال رسالته، وذَمّوا أولئك الذين كانت عيونهم تتجه إلى من فوقهم من المسؤولين، أو لا تتجاوز النظر إلى دريهمات يقبضها أحدهم آخر الشهر، فلا تسد فاقته..

وما يدعو للأسف أن يتحول المعلم إلى مجرد موظف، وليس أقبح من ذلك إلا التصريح بذلك، وما كان يخطر ببالي أن يُصرح معلمٌ بذلك أمام تلاميذه أو يُلمح حتى قرأت قول الشيخ يوسف القرضاوي(11) في ذكرياته:

«وقد كان كثير منهم يصرح بأن أكبر همه هو الراتب. وأذكر أن واحدًا منهم (من المعلمين) كان مغضوبًا عليه، وقد نقل من القاهرة إلى طنطا، فسألناه : ألا يغضبك هذا ؟ فقال بصراحة: أنا لا يهمني إلا راتبي، لو نقصوني جنيهًا واحدًا أو أقل، لقاتلت شيخ الأزهر من أجله ! (12)».

وما أكثر الذين تناولوا معلميهم بالنقد ومراجعة المواقف فمنهم من :

  • ذم أناسًا وأثنى على آخرين فكان ذمُّه أكثرَ من ثنائه كطه حسين(13)
  • ومنهم الساتر للمسيئين المعتذر لهم، المفيض في فضل شيوخه ومعلميه كعلي الطنطاوي(14)
  • ومنهم من كان شتامًا لأكثر الذين عرف، من معلمين وغير معلمين كعبدالرحمن بدوي(15)، الذي لم أره أفاض في الثناء على أحد سوى الشيخ مصطفى عبدالرازق(16)، ولا عجب في ذلك، فمن عرف مصطفى عبدالرازق ولم يثن عليه؟!

وحول مدار هؤلاء الثلاثة تدور تعليقات التلاميذ على أساتذتهم.الأستاذ المجمع على حبه وإذا لم يكن الثناء على مصطفى عبدالرازق مثيرًا للعجب فإن المثير للعجب حقًا هو اجتماع تلك السجايا في رجل واحد، ولعجبي أسوق جملاً من ثناء معاصريه وتلاميذه عليه، فقد أسبغ الدكتور عبدالرحمن بدوي ـ على غير عادته ـ أوصافًا عظيمه على الشيخ مصطفى عبدالرازق فقال:

«لقد كان النبل كله، والمروءة كلها. كان دائمًا هادئ الطبع، باسم الوجه، لا يكاد يغضب، وإن غضب لم يُعبر عن غضبه إلا بحمرة في وجهه وصمت كظيم: لقد كان آية في الحلم والوقار. لكنه وقار عفو الطبع، لا تكلّف فيه ولا تصنع، وفي حالات الأنس بمحدثيه من الأصدقاء أو التلاميذ كان ودودًا محبًا للسخرية الخفيفة، وإذا أراد التقريع لجأ إلى التهكم اللاذع.وكان آية في الإحسان إلى الآخرين، ما لجأ إليه مظلوم إلا حاول إسعافه، أو صاحب حاجة إلا بذل ما استطاع حتى لو كان من ماله، وكم له من أياد بيضاء على بعض طلابه الذين سألوه المساعدة، رغم أنهم لا يستحقونها، كما تجلى في سلوكهم فيما بعد!. وكان عزوفًا عن المناصب الإدارية، يتنازل عنها لمن هو حريص عليها(17)».

وعنه يقول الكاتب الكبير نجيب محفوظ(18) بعد حديثه عن بعض معلميه:

«الشيخ مصطفى عبدالرازق هو أكثرهم تأثيرًا خلال الدراسة الجامعية، الشيخ مصطفى عبدالرازق هو مثال للحكيم كما تتصوره كتب الفلسفة، رجل واسع العلم والثقافة، ذو عقلية علمية مستنيرة، هادئ الطباع، خفيض الصوت لا ينفعل ولم أره مرة يتملكه الغضب (19)».

وعنه يقول: خير الدين الزركلي(20) في كتابه (الأعلام):

«كان هادئ الطبع، يتمهل في تفكيره قبل أن يتكلم أو يكتب، وقورًا مع التواضع، يستجم لبعض أنسه ولا يتبذل، نقي الأسلوب في بيانه، نير الفكر محاضرًا وكاتبًا، يحاسب نفسه على كل كلمة(21)».

وعنه تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها (أعلام في حياتنا):

«كان مهيب الطلعة، وكان خاشع الصوت، دمث الأسلوب والنفس والبيان، لم ينطق في حياته لفظًا نابيًا، ولم يكتب في حياته أسلوبًا فجًا، كان عف اللسانِ واليدِ والضمير(22)».

ويصفه الأستاذ كامل الشناوي في كتابه(لقاء معهم)فيقول:

«كانت أفكاره وألفاظه ومشاعره وعقيدته وأخلاقه مثل ثيابه نظيفة(23)».

 

علي الطنطاوي في الكُتَّاب وعن شيخ الكتاب يقول الشيخ علي الطنطاوي:

«ولقد رأيت أول عهدي به (أي الكُتَّاب)ما كرَّه إليَّ العلم وأهله، ولولا أن تداركني الله بغير معلمي الأول لما قرأتم لي صفحة كتبتها ولا سمعتم مني حديثاً أو خطابًا ألقيته، بل لما قرأت أنا كتابًا.وكّلوا بنا معلمًا شيخًا كبيرًا لا أسميه، فقد ذهب إلى رحمة الله، فكان يحبسنا فيها ونحن أطفال، ولا يدعنا نخرج منها حتى نكتب(ألف باء) كلها في ألواحنا الحجرية أربعًا وعشرين مرة، نكتبها ليراها وليمحوها، ثم نكتبها ليراها وليمحوها، إلا أن يضطر أحدنا (أو يزعم أنه مضطر) للخروج إلى المرحاض فيسمح له بدقائق، إن زاد عليها ازدادت عليه ضربات الخيزران. كنا نكذب، نعم! أفليسوا الذين دفعونا إلى الكذب؟(29)».

وليس غريبًا على أدب الطنطاوي وتدينه أن يسكت عن اسم معلمه توقيرًا له، ولكن هل يفعل ذلك غير الطنطاوي، لقد سمى كثير من الكتاب معلميهم بأوضح أسمائهم ثم أوسعوهم ذمًا، وسنقرأ هنا شيئًا من ذلك.

أحمد السباعي في الكُتَّاب ومن أولئك الذين اكتووا بنار معلمي الكُتَّاب الكاتب أحمد السباعي(30)، الذي أفاض في كتابه (أيامي) في ذكر حوادث ومواقف شيخ الكُتَّاب ومن ذلك قوله:

«كنا في نظر فقيه الكتاب أوزاعًا، تتنوع حقائبنا بتنوع أقيامنا الاجتماعية، شأننا في ذلك شأن الناس في نظر الحياة كما بلوناها فيما بعد.كان فينا المحظوظ بمركز أبيه، أو غناه، أو نفوذه الشخصي، وكان بيننا (الغلبان) لفقره أو يتمه أو ضعف شخصية أبيه، كنت أنا ونفر من أندادي لا نبتعد كثيرًا عن مجموعة (الغلبانين) لأن أولياء أمورنا كانوا من أصحاب البأس الذين وهبوا لحوم أولادهم للفقيه.كنا نُصطفى لكثيرٍ من الخدمات؛ فمنا من يكنس الكتَّاب، ومنا من ينظف المرحاض، ومنا من يحمل الماء إلى حيث تمسح الألواح، ومنا من يملأ (شربة) سيدنا ويبادر فيسقيه وعريفه إذا عطشا، ومنا من تخصص للمروحة إذا اشتد الحر على سيدنا، أو يدلك رجليه إذا احتاج إلى(التكبيس).

كنت أشارك في بعض هذه الخدمات؛ أو أكثرها لأن سيدنا كان لا يدين كثيرًا بمبدأ التخصص، وكان يميزني ويختصني برعاية بالغة في بعض الأحيان فيسلمني نعاله أمضى بها إلى العم جابر الخراز وأبقى إلى جواره في انتظار الفراغ من تسميره، أو يبعث بي إلى أمه في دارها أحمل إليها (زنبيل المقاضي) وأقضي وقتًا غير يسير عندها أعاونها في غسل (الصحون) وأُعنى بطفلته الصغيرة عندها(31)».!!!!!

وقد تجاوز هذا المعلم طبقية النظرة إلى الطبقية في توزيع العقوبات، التي لا تخففها أدلة براءة الغلبانين، كما لا تصيب المحظوظين مهما كانت أدلة إدانتهم:

«قلتُ مرة يا سيدنا ـ هذا ولد العيدروس وولد الصافي يجرون خلفي في الأسواق ويصيحون(دولا مين.. دولا مين.. دولا نصارى ولا يهود.. كشوا عليهم بالبارود) قلت له ذلك وأنا أجهش بالبكاء من فرط ما نالني من الألم، فنظر الشيخ إلى دموعي مرة وإلى خصومي ـ وكانوا من الفريق المحظوظ ـ أخرى؛ ثم رأى أن من الكياسة أن يتصرف في حزم، وأن ينسى المخطئين وأخطاءهم، وينتزع من هذا الغلبان ما يحقق عليه الجزاء والعقوبة،

قال: أعد ما تقول

فرحت أعيده في براءة الطفل:(دولا مين.. دولا مين.. دولا نصارى والا يهود.. كشوا عليهم بالبارود)

فما ملك أن تصنَّع الغيظ لتبجحي في ترتيل مثل هذا القول على مسامعه، وشرع ينهال على طرف جسدي بخيزرانـته اللدنة حتى ترك أثرها واضحًا في كل عضو مني. ولكنه أبى في النهاية إلا أن يكون منصفًا في حدود ما يفسره من معاني الإنصاف، فقد التفت إلى خصومي بعد أن تركني في شبه غيبوبة، وأهاب بهم: يا واد ما تقعدوا عاقلين أنت وهوه!!(32)».

 

ثناء على معلم الكتاب :

ومن الثناء على معلمي الكتاب، ما كتبه الأديب أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري(33)، فقال:

«التحقتُ بالدراسة المنهجية وأنا كبير السن، إذ كانت دراستي في الكتاتيب لدى الشيخ عبدالعزيز بن حنطي رحمه الله.لقد كان والدًا ومربيًا ومعلمًا ذا صفاء ونقاء وتواضع مع كرم النسب والأرومة.كأنه من جيل الصحابة والتابعين رحمنا الله وإياه، وجزاه عنا خيرًا، وجمعنا به في دار كرامته(34)».

الشعراوي في الكُتَّاب ويبدو التشابه واضحًا بين الكتاتيب في الشام ومصر والحجاز، ولنقرأ كلام الشيخ الشعراوي(35) عن أول يوم له في الكتاب إذ يقول:

« قبل أن يأخذني أبي إلى كتاب سيدنا، وأنا صغير، أعدني لهذا اللقاء، اشترى لي كمية هدوم كويسة، وأنا أتساءل ليلة ذهابي للكتاب بيني وبين نفسي: يارب، ماذا يريد أن يفعل بي أبي؟!

وفي الصباح، صلينا الفجر وتناولنا الفطور، وأخذني أبي من يدي، وذهبنا إلى كتاب سيدنا الشيخ عبد الرحمن، وسلمني والدي إليه.. وهو يقول له:

(هذا ابني، اكسر له (ضلع).. وأنا أعالجه!). ثم أشبعه توصيات من هذا النوع..

وسأله سيدنا: ابنك اسمه إيه؟

فرد والدي: اسمه الرسمي محمد، لكن ستُّه لأمه أسمته أمينًا، وهي تحفظ القرآن الكريم، فيصبح له اسمان.

فقمت أنا من مكاني، وقلت لهما :لا، هناك اسم ثالث. فرد الشيخ عبد الرحمن:
ما الاسم الثالث يا بني؟

فقاطعته قائلاً:قل لي ياوله، مش يا بني.

فسألني: لماذا؟

فقلت لسيدنا: لأن ابن عمتي يناديني دائمًا يا وله، ما يقوليش لا يا محمد ولا يا أمين، يقول ياوله.

ضحك سيدنا الشيخ، وقال: يا وله دي يعني يا ولد، وهذه تقال لكل واحد في سنك.

فقلت لسيدنا: أهم بيقولوا لي كده، واحد يقول يا محمد، وواحد يقول يا أمين، وواحد يقول يا وله، لخبطوني، فتعودت على وله(36)».

 

يوسف القرضاوي في الكُتَّاب :

ومما يدل على أن معلم الكُتَّاب هو الذي يعلو بمنزلة كُتابه أو يهبط به ما ذكره الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن أول عهده بكُتَّاب القرية إذ جرّب معلميْن رفض أحدهما ورضي الآخر فقال:

«وفي منطقتنا كان كتاب الشيخ يماني مراد، وكتاب الشيخ حامد أبو زويل. وقد ذهبت أول ما ذهبت إلى كتاب الشيخ يماني بإغراء من أحد أقاربنا الذي كان من تلاميذ هذا الكتاب. ولكني انتسبت إليه يومًا واحدًا فقط، ولم أعد إليه بعد ذلك، وذلك لأن الشيخ يماني ضرب التلاميذ جميعًا (لتنشيطهم) وكنت بالطبع من المضروبين. فعز عليَّ أن أُضرب ظلمًا وبلا سبب، وفي أول قدومي، ورفضت أن أعود إلى هذا الكتاب مرة أخرى.

ويبدو أن كراهية الظلم والنفور منه، والثورة على مرتكبيه ـ ولو كان ظلمًا صغيرًا ـ خصلة قديمة عندي، أو هي فطرة فطرني الله عليها، فلا أحب أن أظلم أو أظلم، وقد تعلمت بعد ذلك أن النبي [ كان يستعيذ بالله أن يظلم أو يظلم، أو يجهل أو يجهل عليه. هذا الظلم الذي وقع عليَّ جعلني أنقطع عن الذهاب إلى أي كُتَّاب مدة من الزمن، حتى حرضتني والدتي ـ رحمها الله ـ على الذهاب إلى كُتَّاب الشيخ حامد، وبالفعل أخذت بيدي في زيارتها لبيت أبيها وسلمتني إلى الشيخ حامد،

وقالت له: هو أمانة عندك،

قال لها: إنه ابننا وهو في أعيننا.

وفعلاً استقبلني الشيخ حامد، رحمه الله، وكنت محظيًا عنده وعند والدته، رحمها الله. وقد لاحظ الشيخ حامد أني تلميذ مجتهد، فقد لاحظ سرعة حفظي، وسلامة نطقي، كما لاحظ أني أول صبي يحضر إلى الكتاب.

كان الكتاب بمنزلة المدرسة الخاصة، ولكن رسومه وأجوره كانت زهيدة بسيطة، فهو يأخذ نصف قرش في يوم الأربعاء من كل أسبوع، وذلك أن الأربعاء يوم سوق القرية. ولكن الشيخ حامد كان يتسامح معي إذا لم أجد نصف القرش، لأمرين :

  • لأنه يعرف أني يتيم،
  • والثاني : لنجابتي بين تلاميذه.

وكان هذا من فضل الشيخ حامد ومكارم أخلاقه، حتى إنه أصبح يأخذ مني نصف القرش كل أسبوعين. كان الشيخ حامد من حفاظ القرآن المحترمين، عزيز النفس، محتفظًا بكرامته. كان جل حفظة القرآن يقرؤون في أيام الأخمسة على المقابر بأجرة زهيدة يدفعها أهل الموتى، كثيرًا ما تكون بعض المأكولات، ولكن الشيخ حامدًا نزه نفسه عن ذلك. وكان رجلاً بسيطًا نظيفًا أنيقًا، يلبس جلبابًا وعمامة، ويصلي الصلوات الخمس في المسجد، وهو قريب من البيت والكتاب، وكثيرًا ما يؤم الناس إذا تغيب الإمام الراتب. كان الشيخ حامد حريصًا على أن يعلمني بعض الدقائق التي يراها تفيدني في حفظ القرآن،

فأراه مثلاً حينما قرأت عليه قوله تعالى في سورة النحل: {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} (النحل : 29) ، قال لي: هذه الآية الوحيدة التي فيها {فلبئس} وكل آيات القرآن {فبئس مثوى}.

وكذلك عندما قرأت عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم} (العنكبوت:26) قال لي : هذه هي المرة الوحيدة بهذه الصيغة: {إنه هو العزيز الحكيم}.ولهذا لم يأخذ النصف الثاني من القرآن معي أكثر من ثلاثة أشهر، إذ كنت قد حفظت من قبل من سورة النجم إلى آخر القرآن. وانتهى بي المطاف إلى اللوح الأخير في القرآن الكريم، وهو عادة يكون من سورة الضحى إلى سورة الناس، وفي العادة يكتب في لوح كبير، ويقرؤه التلميذ في حفل ختام القرآن. واستعد الكتاب، واستعد التلاميذ فيه، واستعد الأقارب بإحضار الشربات و(الكراملة)، واستعد الشيخ حامد فدعا بعض أحبابه للحضور، واستعددت أنا لقراءة اللوح الأخير في اليوم المشهود، يوم الختمة الكبيرة.

وكان حفلاً متواضعًا، ولكنه كان جميلاً ورائعًا، كنت أقرأ السورة، وفي ختامها أقول : لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وأولاد الكتاب جميعًا يرددون معي هذا الذكر بصوت جماعي مؤثر، من سورة الضحى إلى سورة الناس. كان عمري في ذلك الحين تسع سنوات وبضعة أشهر، وكنت أصغر طالب حفظ القرآن في القرية، ولولا الأشهر العشرة التي غبتها عن الكتاب لختمت القرآن قبل سنة تقريبًا. ولكن كل شيء بأجل مسمى. ومن ذلك اليوم شيّخني الناس، وسموني ( الشيخ يوسف ) حافظ كتاب الله. كان من حق الشيخ حامد أن يحصل على جنيه مكافأة ختم القرآن، يأخذها عادة من كل تلميذ يتم حفظ القرآن، ولكنه ـ رعاية لحالي ـ اكتفى بنصف جنيه جزاه الله خيرًا (37)».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق